Mahmoud Hamdy

أصابني الملل في الشمال

حوار محمود حمدي

عندما وصلتُ لأول مرة إلى أمستردام جذبت انتباهي نظرة السكان المحلين لشمال أمستردام، وبدا لي أن سكان أمستردام ينظرون إلى شمال المدينة على أنه مدينة أخرى رغم أن المسافة بين هذه المنطقة ووسط المدينة قصيرة جدًّا على العبَّارة. يبدو كما لو أن المسافة النفسية بين شمال أمستردام ووسطها أبعد من المسافة الفعلية. في إحدى الأمسيات قادتني محادثة شيقة إلى أغنية «أصابني الملل، أصابني الملل في شمال أمستردام»، وهي من إنتاج المغني وكاتب الأغاني هاري سلينغر (Harry Slinger) في سبعينيات القرن الماضي. قررت أن التقي هاري ليشاركني بعض الحكايات عن بدايته الموسيقية وتجربته في شمال أمستردام في وقت كانت فيه «الحاجة ماسَّة إلى أغنية تحرك الناس».
أدناه مقتطفات من حوارنا.

Enlarge

قبعة هاري -

محمود: هل لك أن تبدأ بتقديم نفسك، وكيف أُصبتَ بالملل في شمال أمستردام؟
هاري: وُلدت عام 1949 بشارع Bloemgracht بحي يوردان Jordaan، تابعت برنامجًا دراسيًّا بصفة مؤقتة في الدراسات الاجتماعية وأصبحت مرشدًا اجتماعيًّا للشباب في شمال المدينة، في وقتها كان الكل فيه يعتبرني أحمق لأنني أردت العمل مع scum في الشمال. ولكن كان ذلك يبدو أفضل شيء يمكن أن أقوم به. وبعد كل شيء أصبحت بدوري شقيًّا في الشارع. هذه هي بدايتي في مركز الشباب Banne Buiksloot.

سرعان ما بدأت المشكلات مع البطالة وقلة المرافق والمدارس السيئة، وأُغلِقَت المواني وأفلس مصنع فورد (Ford)، كل ذلك كان بين عامَي 1975 و1980. والمشكلة الكبيرة كانت كثرة القرى الصغيرة المنفصلة، مثل الرمل الأزرق Blauwe Zand وفلورادورب Floradorp وتاوندورب أوستزان Tuindorp Oostzaan وحومة توتي فروتي Tutti Frutti... وكان الشباب يستخدمون العنف بعضهم ضد بعض لا ضد البلدية. الفقراء غالبًا لا يلومون الأغنياء وإنما يلوم بعضهم بعضًا.
بعد ذلك جاء بعض طلبة الدراسات الاجتماعية إلى شمال أمستردام. بدأوا في إعداد مشروع شباب جهة شمال أمستردام، الهدف منه هو توحيد مرشدي الشباب، ولكن كانت هناك حاجة إلى أغنية تدعو للحركة. كتبت كلمات للأغنية وكانت تلك أول كلمات أكتبها. أصيبت المحطات الإذاعية بجنون، وفجأة أصبحت أغنية ناجحة! أخذنا سفينة مسطحة مملوءة بالشباب المحليين والفرقة الموسيقية وذهبنا إلى البلدية في Oudezijds Voorburgwal، المقر القديم لمجلس البلدية، وغنيت أمام مستشار المدينة، طالبًا أن يفعلوا شيئًا للجهة الشمالية لأمستردام.
في السابق كان الجناح اليساري الاشتراكي لا يزال موجودًا، وكان المستشار القانوني للمدينة هو يان شخافر Jan Schaefer، وكان يُعرَف بـ «لا يمكنك أن تعيش في مكان معفن». لكنه أسهم في التغيير. كل شيء كان يسير بشكل أفضل، مثل الاستثمارات في الشمال... إلى أن جاء لوبرس (Lubbers) إلى ضفة الحكم وأصبح الحزب المسيحي الديمقراطي
والحزب الليبرالي هما الحزبين الحاكمَين. وتم بعدها التراجع عن التغييرات!

محمود: ألا تزال الأغنية تنطبق على الوضع الحالي؟
هاري: نعم، ظل شمال أمستردام هو بئر التصريف بالنسبة إلى أمستردام خلال قرون من الزمن. هل تعرف فلورادورب (Floradorp)؟ توجد في سنيوبالفخ (Sneeuwbalweg) بالقرب من فلوراباركباد (Floraparkpad).. كان في هذه المنطقة حائط يشبه الجدار الذي بنته إسرائيل في الأراضي الفلسطينية. بنوه لأن الناس لم يكونوا منسجمين اجتماعيًّا. لقد كانوا منبوذين من المجتمع.

محمود: إذا أردت أن تعيد كتابة الأغنية فهل ستضيف إليها شكاوى أخرى؟
هاري: أتكلم أوَّلاً مع الشباب وأسألهم عن شكاويهم. قد يستعملون موقع «تويتر»، ولكن لا أعتقد أنها ستكون مختلفة. أظن أن أسوأ شيء ممكن هو عندما تشعر كشاب صغير أنك بلا فرص وأنك وُضعت في وضع غير لائق أو غير مُوَاتٍ، وأن الحياة ليس لديها ما تقدمه لك. ولكن هذا ليس صحيحًا فقط بالنسبة لشمال أمستردام، أعتقد أن نفس الحال سيكون في القاهرة وجنوب إفريقيا وأمريكا الجنوبية... أنت قلتَها: إذا كان الشباب يشعرون أنهم بلا مستقبل، فإننا -نحن الكبار- فشلنا.

محمود: كيف تنظرون إلى المستقبل في شمال أمستردام؟
هاري: حسن، أظن أن وسائل الإعلام المستقرة هناك والناس العاملين بشركات الإعلام هم أناس يركزون على العالم الخارجي، إنهم يلتقطون الأشياء التي يرونها. أرى أن هذا تطور جيد. إنه مختلف عن سائق الحافلة الذي يعيش هناك. ابني يعمل في مجال المونتاج هناك في شركة إعلامية، والآن يريد أيضًا أن يسكن في الشمال، وقد يكون ذلك شيئًا جيدًا. هناك حشد يقطن هناك بشكل تطوعي، وهذا بطبيعة الحال تطوُّر مختلف. يكفي أنك تُجرِي حوارًا وتريد أن تكتب دليلاً سياحيًّا يركز على شمال أمستردام، فذلك بطبيعة الحال شيء عظيم! أظن أن الشماليين لو عرفوا ذلك... حسن، فإنهم سيقيمون لك نُصُبًا فورًا بطبيعة الحال، ولكن حسن... (ضحك خفيف).

محمود: هل سيكون لديكم اهتمام إذا أرادت فرقة موسيقية في شمال أمستردام أن تنتج نسخة جديدة من الأغنية؟
هاري: هل ستغنِّيها بالإنجليزية إذن؟

محمود: لا، بالهولندية، وربما بالعربية.
هاري (مبتسما): هل تغنِّيها باللغة العربية؟

محمود: أظن أن في شمال أمستردام حضورًا عربيًّا، وأظن أننا لو استطعنا القيام بذلك في وقت قصير...
هاري: أليست مشكلة أن أجدادي يهود؟
(ضحك)

محمود: نعم، ليست مشكلة! هل زرت الشرق الأوسط، إسرائيل؟
هاري: لا.

محمود: هل أنت متدين؟
هاري: أنا؟ لا، لا أؤمن بشيء! الحياة جميلة، ولكنها بلا معنى.

محمود: وذلك هو سر جمالها.
هاري: نعم (ضاحكا)، أنا سعيد.